فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والماءُ المنزل من السماء على قسمين: هذا الذي ذكر الله سبحانه وتعالى وأخبر بأنه استودعه في الأرض، وجعله فيها مختزنًا لسقْي الناس يجدونه عند الحاجة إليه؛ وهو ماء الأنهار والعيون وما يستخرج من الآبار وروي عن ابن عباس وغيره أنه إنما أراد الأنهار الأربعة: سَيْحان وجَيْحان ونيل مصر والفُرات.
وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء.
وهذا ليس على إطلاقه، وإلا فالأُجَاج ثابت في الأرض، فيمكن أن يقيّد قوله بالماء العذب، ولا محالة أن الله تعالى قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء.
وقد قيل: إن قوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً} إشارةٌ إلى الماء العذب، وأن أصله من البحر، رفعه الله تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء، حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد؛ ثم أنزله إلى الأرض ليُنتفع به، ولو كان الأمر إلى ماء البحر لما انتفع به من ملوحته.
الثانية: قوله تعالى: {بِقَدَرٍ} أي على مقدار مصلح، لأنه لو كثر أهلك؛ ومنه قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21].
{وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} يعني الماء المختزن.
وهذا تهديد ووعيد؛ أي في قدرتنا إذهابه وتغويره، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم؛ وهذا كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا أي غائرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30].
الثالثة: ذكر النحاس: قرئ على أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن جامع بن سوادة قال: حدّثنا سعيد بن سابق قال حدّثنا مسلمة بن على عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل الله عز وجل من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سَيْحون وهو نهر الهند وجَيْحون وهو نهر بَلْخ ودِجلْة والفُرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله جل ثناؤه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عز وجل جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم وجميع الأنهار الخمسة فيرفع ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا».
الرابعة: كل ما نزل من السماء مختزنًا كان أو غير مختزن فهو طاهر مطهر يغتسل به ويتوضأ منه؛ على ما يأتي في الفرقان بيانه.
{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)}.
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {فَأَنشَأْنَا} أي جعلنا ذلك سبب النبات، وأوجدناه به وخلقناه.
وذكر تعالى النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما؛ قاله الطبري.
ولأنها أيضًا أشرف الثمار؛ فذكرها تشريفًا لها وتنبيهًا عليها.
{لَّكُمْ فِيهَا} أي في الجنات.
{فَوَاكِهُ} من غير الرطب والعنب.
ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصّة إذ فيها مراتب وأنواع؛ والأوّل أعم لسائر الثمرات.
الثانية: من حلف ألا يأكل فاكهة؛ ففي الرواية عندنا يحنث بالباقِلاَء الخضراء وما أشبهها.
وقال أبو حنيفة: لا يحنث بأكل القِثّاء والخيار والجزر؛ لأنها من البقول لا من الفاكهة.
وكذلك الجوز واللوز والفستق؛ لأن هذه الأشياء لا تُعدّ من الفاكهة.
وإن أكل تفاحًا أو خوخًا أو مشمشًا أو تِينًا أو إجّاصًا يحنث.
وكذلك البِطّيخ؛ لأن هذه الأشياء كلها تؤكل على جهة التفكّه قبل الطعام وبعده؛ فكانت فاكهة.
وكذلك يابس هذه الأشياء إلا البطيخ اليابس لأن ذلك لا يؤكل إلا في بعض البلدان.
ولا يحنث بأكل البطيخ الهندي لأنه لا يعدّ من الفواكه.
وإن أكل عنبًا أو رمّانًا أو رطبًا لا يحنث.
وخالفه صاحباه فقالا يحنث؛ لأن هذه الأشياء من أعز الفواكه، وتؤكل على وجه التنعم.
والإفراد لها بالذكر في كتاب الله عز وجل لكمال معانيها؛ كتخصيص جبريل وميكائيل من الملائكة.
واحتج أبو حنيفة بأن قال: عطف هذه الأشياء على الفاكهة مرة فقال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ومرة عطف الفاكهة على هذه الأشياء فقال: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] والمعطوف غير المعطوف عليه، ولا يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد بلفظين مختلفين في موضع المنّة.
والعنب والرمان يُكتفى بهما في بعض البلدان فلا يكون فاكهة؛ ولأن ما كان فاكهة لا فرق بين رطبه ويابسه، ويابسُ هذه الأشياء لا يعد فاكهة فكذلك رطبها. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)}.
لما ذكر تعالى ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه و{سبع طرائق} السموات قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض، طارق النعل جعله على نعل، وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر قاله الخليل والفراء والزجّاج كقوله: {طباقًا} وقيل: لأنها طرائق الملائكة في العروج.
وقيل: لأنها طرائق في الكواكب في مسيرها.
وقيل: لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى.
قال ابن عطية: ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء.
{وما كنا عن الخلق غافلين} نفى تعالى عنه الغفلة عن خلقه وهو ما خلقه تعالى فهو حافظ السموات من السقوط وحافظ عباده بما يصلحهم، أي هم بمرأى منا ندبرهم كما نشاء {بقدر} بتقدير منا معلوم لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم {فأسكناه في الأرض} أي جعلنا مقره في الأرض.
وعن ابن عباس: أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل.
وفي قوله: {فأسكناه في الأرض} دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض، فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على إذهابه.
قال الزمخشري: {على ذهاب به} من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه انتهى.
و{ذهاب} مصدر ذهب، والباء في {به} للتعدية مرادفة للهمزة كقوله: {لذهب بسمعهم} أي لأذهب سمعهم.
وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورًا فمن يأتيكم بماء معين} وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلاّ وهو من السماء.
قال ابن عطية: ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلاّ فالأجاج نابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط، وأيضًا فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السموات والأرض، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء انتهى.
وقيل: ما نزل من السماء أصله من البحر، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ولو كان باقيًا على حاله ما انتفع به من ملوحته.
ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال: {فأنشأنا لكم به جنات} وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع، ووصف النخل والعنب بقوله: {لكم فيها} إلى آخره لأن ثمرهما جامع بين أمرين أنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطبًا ويابسًا رطبًا وعنبًا وتمرًا وزبيبًا، والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعًا، ويحتمل أن يكون قوله: {ومنها تأكلون} من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن صنعة يغتلها، ومن تجارة يتربح بها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه.
كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترتزقون وتتعيشون قاله الزمخشري.
وقال الطبري: وذكر النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما، والضمير في {ولكم فيها} عائد على الجنات وهو أعم لسائر الثمرات، ويجوز أن يعود على النخيل والأعناب. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ}.
بيانٌ لخلقِ ما يحتاج إليه بقاؤُهم إثرَ بيانِ خلقِهم أي خلقنا في جهةِ العلوِّ من غيرِ اعتبارِ فوقيَّتِها لهم لأنَّ تلك النِّسبة إنما تعرَّض لها بعد خلقِهم {سَبْعَ طَرَائِقَ} هي السموات السَّبعُ سُمِّيتْ بها لأنَّها طُورق بعضُها فوق بعضٍ مُطارقةَ النَّعلِ فإنَّ كلَّ ما فوقه مثلُه فهو طريقةٌ أو لأنَّها طرائقُ الملائكةِ أو الكواكبِ فيها مسيرُها {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق} عن ذلك المخلوق الذي هو السموات أو عن جميع المخلوقاتِ التي هي من جُملتِها أو عن النَّاسِ. {غافلين} مُهملين أمرَها بل نحفظُها عن الزَّوال والاختلالِ وندبر أمرَها حتَّى تبلغَ مُنتهى ما قُدِّر لها من الكمال حسبما اقتضتْهُ الحكمةُ وتعلقتْ به المشيئةُ ويصل إلى ما في الأرض منافعُها كما ينبىءُ عنه قولُه تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء} هو المطرُ أو الأنهار النَّازلة من الجنَّة قيل هي خمسةُ أنهار سيحُون نهرُ الهندِ وجيحونُ نهر بَلْخِ ودجلةُ والفراتُ نَهْرا العراقِ والنِّيلُ نهرُ مصرَ أنزلها اللَّهُ تعالى من عينٍ واحدةٍ من عيونِ الجنَّةِ فاستودَعها الجبالَ وأجراها في الأرض وجعل فيها منافعَ للنَّاسِ في فُنونِ معايشهم. ومن ابتدائيَّةٌ متعلِّقةٌ بأنزلنا وتقديمُها على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مرارًا من الاعتناء بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ والعدولِ عن الإضمارِ لأنَّ الإنزالَ لا يُعتبر فيه عنوانُ كونها طرائقَ بل مجرَّدُ كونها جهة العلوِّ {بِقَدَرٍ} بتقديرٍ لائق لاستجلابِ منافعهم ودفعِ مضارِّهم أو بمقدارِ ما علمنا من حاجاتهم ومصالحهم {فَأَسْكَنَّاهُ في الأرض} أي جعلناه ثابتًا قارًّا فيها {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ} أي إزالتهِ بالإفسادِ أو التَّصعيدِ أو التَّغويرِ بحيثُ يتعذَّرُ استنباطُه {لقادرون} كما كُنَّا قادرين على إنزالهِ. وفي تنكيرِ ذهابٍ إيماءٌ إلى كثرةِ طُرقهِ ومبالغةٌ في الإبعادِ به. ولذلك جعل أبلغ من قوله تعالى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ}.
{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ} أي بذلك الماءِ.
{جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب لَّكُمْ فِيهَا} في الجنَّاتِ {فواكه كَثِيرَةٌ} تتفكَّهون بها {وَمِنْهَا} من الجنَّاتِ {تَأْكُلُونَ} تغذيًا أو تُرزقون وتحصِّلُون معايشَكُم من قولهم فلانٌ يأكل من حرفتهِ ويجوز أي يعود الضميرانِ للنَّخيلِ والأعنابِ أي لكم في ثمراتها أنواعٌ من الفواكه الرُّطبِ والعنب والتَّمرِ والزَّبيبِ والعصير والدِّبسِ وغير ذلك وطعام تأكلونه. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ}.
بيان لخلق ما يحتاج إليه بقاؤهم إثر بيان خلقهم، وقيل: استدلال على البعث أي خلقنا في جهة العلو من غير اعتبار فوقيتها لهم لأن تلك النسبة إنما تعرض بعد خلقهم {سَبْعَ طَرَائِقَ} هي السموات السبع، و{طَرَائِقَ} جمع طريقة بمعنى مطروقة من طرق النعل والخوافي إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض قاله الخليل والفراء والزجاج، فهذا كقوله تعالى: {طِبَاقًا} [الملك: 3] ولكل من السبع نسبة وتعلق بالمطارقة فلا تغليب، وقيل: جمع طريقة بمعناها المعروف وسميت السموات بذلك لأنها طرائق الملائكة عليهم السلام في هبوطهم وعروجهم لمصالح العباد أو لأنها طرائق الكواكب في مسيرها.